فصل: بَاب ذِكْرِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِيمَنْ جُنَّ رَمَضَانَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.بَابُ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ:

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: إذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا أَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَإِنَّهُمَا تُفْطِرَانِ وَتَقْضِيَانِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا.
وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُرْضِعِ إذَا خَافَتْ عَلَى وَلَدِهَا وَلَا يَقْبَلُ الصَّبِيُّ مِنْ غَيْرِهَا: فَإِنَّهَا تُفْطِرُ وَتَقْضِي وَتُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا مِسْكِينًا، وَالْحَامِلُ إذَا أَفْطَرَتْ لَا إطْعَامَ عَلَيْهَا؛ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَهُمَا مِثْلُ الْمَرِيضِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا أَفْطَرَتَا وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَإِنْ لَمْ تَقْدِرَا عَلَى الصَّوْمِ فَهُمَا مِثْلُ الْمَرِيضِ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ بِلَا كَفَّارَةٍ وَرُوِيَ عَنْهُ فِي الْبُوَيْطِيِّ أَنَّ الْحَامِلَ لَا إطْعَامَ عَلَيْهَا.
وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ؛ فَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ إذَا أَفْطَرَتَا وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ بِلَا قَضَاءٍ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرُ وَمُجَاهِدٌ: عَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ وَالْقَضَاءُ.
وَالْحُجَّةُ لِأَصْحَابِنَا مَا حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدِ الْقَاسِمِ بْنُ سَلَامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو قِلَابَةَ هَذَا الْحَدِيثَ، ثُمَّ قَالَ: هَلْ لَكَ فِي صَاحِبِ الْحَدِيثِ الَّذِي حَدَّثَنِي؟ قَالَ: فَدَلَّنِي عَلَيْهِ، فَلَقِيتُهُ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي قَرِيبٌ لِي يُقَالُ لَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إبِلٍ لِجَارٍ لِي أُخِذَتْ، فَوَافَقْتُهُ وَهُوَ يَأْكُلُ، فَدَعَانِي إلَى طَعَامِهِ فَقُلْتُ: إنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ: إذًا أُخْبِرُكَ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَعَنْ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ» قَالَ: فَكَانَ يَتَلَهَّفُ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: أَلَا أَكُونُ أَكَلْت مِنْ طَعَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَعَانِي.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: شَطْرُ الصَّلَاةِ مَخْصُوصٌ بِهِ الْمُسَافِرُ؛ إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ الْحَمْلَ وَالرَّضَاعَ لَا يُبِيحَانِ قَصْرَ الصَّلَاةِ.
وَوَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا إخْبَارُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّ وَضْعَ الصَّوْمِ عَنْ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ هُوَ كَوَضْعِهِ عَنْ الْمُسَافِرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ وَضْعَ الصَّوْمِ الَّذِي جَعَلَهُ مِنْ حُكْمِ الْمُسَافِرِ هُوَ بِعَيْنِهِ جَعْلُهُ مِنْ حُكْمِ الْمُرْضِعِ وَالْحَامِلِ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَهُمَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ ذِكْرِ شَيْءٍ غَيْرَهُ؟ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ وَضْعِ الصَّوْمِ عَنْ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ هُوَ فِي حُكْمِ وَضْعِهِ عَنْ الْمُسَافِرِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَضْعَ الصَّوْمِ عَنْ الْمُسَافِرِ إنَّمَا هُوَ عَلَى جِهَةِ إيجَابِ قَضَائِهِ بِالْإِفْطَارِ مِنْ غَيْرِ فِدْيَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ.
وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ إذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدَيْهِمَا؛ إذْ لَمْ يَفْصِلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَأَيْضًا لَمَّا كَانَتْ الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ يُرْجَى لَهُمَا الْقَضَاءُ وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُمَا الْإِفْطَارُ لِلْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ أَوْ الْوَلَدِ مَعَ إمْكَانِ الْقَضَاءِ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَا كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ؛ فَإِنَّ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِإِيجَابِ الْقَضَاءِ وَالْفِدْيَةِ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} لَمْ يَصِحَّ لَهُمْ وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ عَلَى مَا ادَّعَوْهُ وَذَلِكَ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فَرْضَ الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ، وَأَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْفِدْيَةِ؛ وَبَيَّنَّا أَنَّ مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ فَلَيْسَ الْقَوْلُ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ وَإِنَّمَا يَكُونُ تَوْقِيفًا؛ فَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ لَمْ يَجْرِ لَهُمَا ذِكْرٌ فِيمَا حَكَوْا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُهَا مَحْمُولًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَقَدْ ثَبَتَ نَسْخُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ لَهُمْ بِهِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ خِطَابٌ لِمَنْ تَضَمَّنَهُ أَوَّلُ الْآيَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ حُكْمُ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا خَافَتَا الضَّرَرَ لَمْ يَكُنِ الصَّوْمُ خَيْرًا لَهُمَا بَلْ مَحْظُورٌ عَلَيْهِمَا فِعْلُهُ، وَإِنْ لَمْ تَخْشَيَا ضَرَرًا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدَيْهِمَا فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُمَا الْإِفْطَارُ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ تُرَادَا بِالْآيَةِ.
وَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ مِنْ الْقَائِلِينَ بِإِيجَابِ الْفِدْيَةِ وَالْقَضَاءِ أَنَّ اللَّهِ تَعَالَى سَمَّى هَذَا الطَّعَامَ فِدْيَةً، وَالْفِدْيَةُ مَا قَامَ مَقَامَ الشَّيْءِ وَأَجْزَأَ عَنْهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ عَلَى هَذَا الْوَضْعِ اجْتِمَاعُ الْقَضَاءِ وَالْفِدْيَةِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ إذَا وَجَبَ فَقَدْ قَامَ مَقَامَ الْمَتْرُوكِ فَلَا يَكُونُ الْإِطْعَامُ فِدْيَةً، وَإِنْ كَانَ فِدْيَةً صَحِيحَةً فَلَا قَضَاءَ؛ لِأَنَّ الْفِدْيَةَ أَجْزَأَتْ عَنْهُ، وَقَامَتْ مَقَامَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الَّذِي يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ وَالْإِطْعَامُ قَائِمَيْنِ مَقَامَ الْمَتْرُوكِ؟ قِيلَ لَهُ: لَوْ كَانَ مَجْمُوعُهُمَا قَائِمَيْنِ مَقَامَ الْمَتْرُوكِ مِنْ الصَّوْمِ لَكَانَ الْإِطْعَامُ بَعْضَ الْفِدْيَةِ وَلَمْ يَكُنْ جَمِيعَهَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ سَمَّى ذَلِكَ فِدْيَةً، وَتَأْوِيلُكَ يُؤَدِّي إلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْآيَةِ.
وَأَيْضًا إذَا كَانَ الْأَصْلُ الْمُبِيحُ لِلْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ الْإِفْطَارَ وَالْمُوجِبُ عَلَيْهِمَا الْفِدْيَةَ هُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} وَقَدْ ذَكَرَ السَّلَفُ الَّذِينَ قَدَّمْنَا قَوْلَهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ كَانَ أَحَدُ شَيْئَيْنِ مِنْ فِدْيَةٍ أَوْ صِيَامٍ لَا عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى إيجَابِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا عَلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ؟ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} حَذْفَ الْإِفْطَارِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ إذَا أَفْطَرُوا فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا اقْتَصَرَ بِالْإِيجَابِ عَلَى ذِكْرِ الْفِدْيَةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ إيجَابُ غَيْرِهَا مَعَهَا لِمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي النَّصِّ، وَغَيْرُ جَائِزٍ الزِّيَادَةُ فِي الْمَنْصُوصِ إلَّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ؛ وَلَيْسَتَا كَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يُرْجَى لَهُ الْقَضَاءُ فَهُمَا كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ.
وَإِنَّمَا يَسُوغُ الِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ لِابْنِ عَبَّاسٍ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى إيجَابِ الْفِدْيَةِ دُونَ الْقَضَاءِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ إذَا كَانَتَا إنَّمَا تَخَافَانَ عَلَى وَلَدَيْهِمَا دُونَ أَنْفُسِهِمَا فَهُمَا تُطِيقَانِ الصَّوْمَ فَيَتَنَاوَلَهُمَا ظَاهِرُ قَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ؛ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، أَنَّ عِكْرِمَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُ فِي قَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قَالَ: أُثْبِتَتْ لِلْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَزْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قَالَ: كَانَتْ رُخْصَةً لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْمَرْأَةِ وَهُمَا يُطِيقَانِ الصِّيَامَ أَنْ يُفْطِرَا وَيُطْعِمَا مَكَانَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَالْحُبْلَى وَالْمُرْضِعُ إذَا خَافَتَا عَلَى أَوْلَادِهِمَا أَفْطَرَتَا وَأَطْعَمَتَا.
فَاحْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَأَوْجَبَ الْفِدْيَةَ دُونَ الْقَضَاءِ عِنْدَ خَوْفِهِمَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا؛ إذْ هُمَا تُطِيقَانِ الصَّوْمَ فَشَمِلَهُمَا حُكْمُ الْآيَةِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَنْ أَبَى ذَلِكَ مِنْ الْفُقَهَاءِ ذَهَبَ إلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُ ذَكَرُوا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ حُكْمَ سَائِرِ الْمُطِيقِينَ لِلصَّوْمِ فِي إيجَابِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ، وَهُوَ لَا مَحَالَةَ قَدْ يَتَنَاوَلُ الرَّجُلَ الصَّحِيحَ الْمُطِيقَ لِلصَّوْمِ؛ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ؛ لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُخَيَّرَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا إمَّا أَنْ تَخَافَا فَعَلَيْهِمَا الْإِفْطَارُ بِلَا تَخْيِيرٍ، أَوْ لَا تَخَافَا فَعَلَيْهِمَا الصِّيَامُ بِلَا تَخْيِيرٍ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَتَنَاوَلَ الْآيَةُ فَرِيقَيْنِ بِحُكْمٍ يَقْتَضِي ظَاهِرُهَا إيجَابَ الْفِدْيَةِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ فِي أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ، وَفِي الْفَرِيقِ الْآخَرِ إمَّا الصِّيَامُ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ بِلَا تَخْيِيرٍ أَوْ الْفِدْيَةِ بِلَا تَخْيِيرٍ، وَقَدْ تَنَاوَلَهُمَا لَفْظُ الْآيَةِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَتَنَاوَلْ الْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ إذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الصِّيَامَ لَا يَكُونُ خَيْرًا لَهُمَا.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْقُشَيْرِيِّ فِي تَسْوِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَبَيْنَ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ فِي حُكْمِ الصَّوْمِ.
قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّ الْفَرْضَ الْأَوَّلَ كَانَ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ بِقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ} وقَوْله تَعَالَى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} وَأَنَّهُ نُسِخَ بِقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ بَيَانٌ لِلْمُوجِبِ بِقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وَقَوْلِهِ: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} فَيَصِيرُ تَقْدِيرُهُ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ هِيَ شَهْرُ رَمَضَانَ فَإِنْ كَانَ صَوْمُ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ مَنْسُوخًا بِقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} إلَى قَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَقَدْ انْتَظَمَ قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} نَسْخَ حُكْمَيْنِ مِنْ الْآيَةِ الْأُولَى: أَحَدُهُمَا: الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَالْآخَرُ: التَّخْيِيرُ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ فِي قَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} عَلَى نَحْوِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ عَنْ السَّلَفِ، وَإِنْ كَانَ قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} بَيَانًا لِقَوْلِهِ: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} فَقَدْ كَانَ لَا مَحَالَةَ بَعْدَ نُزُولِ فَرْضِ رَمَضَانَ التَّخْيِيرُ ثَابِتًا بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ إيجَابِهِ، فَكَانَ هَذَا الْحُكْمُ مُسْتَقِرًّا ثَابِتًا، ثُمَّ وَرَدَ عَلَيْهِ النَّسْخُ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} إذْ غَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ النَّسْخِ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْهُ.
وَالصَّحِيحُ هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي، لِاسْتِفَاضَةِ الرِّوَايَةِ عَنْ السَّلَفِ بِأَنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ كَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَنَّهُ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
فَإِنْ قِيلَ: فِي فَحْوَى الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}.
غَيْرُ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ إلَّا مَقْرُونًا بِذِكْرِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِدْيَةِ، وَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} فَرْضًا مُجْمَلًا مَوْقُوفَ الْحُكْمِ عَلَى الْبَيَانِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ التَّخْيِيرِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْفَرْضِ مَعْنَى.
قِيلَ لَهُ: لَا يَمْتَنِعُ وُرُودُ فَرْضٍ مُجْمَلًا مُضَمَّنًا بِحُكْمٍ مَفْهُومِ الْمَعْنَى مَوْقُوفٍ عَلَى الْبَيَانِ، فَمَتَى وَرَدَ الْبَيَانُ بِمَا أُرِيدَ مِنْهُ كَانَ الْحُكْمُ الْمُضَمَّنُ بِهِ ثَابِتًا مَعَهُ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} حُكْمُهَا إذَا بُيِّنَ وَقْتُهَا وَمِقْدَارُهَا أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُونَ بِهِ مُخَيَّرِينَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} فَاسْمُ الْأَمْوَالِ عُمُومٌ يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ فِيمَا عَلِقَ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ، وَالصَّدَقَةُ مُجْمَلَةٌ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْبَيَانِ؛ فَإِذَا وَرَدَ بَيَانُ الصَّدَقَةِ كَانَ اعْتِبَارُ عُمُومِ اسْمِ الْأَمْوَالِ سَائِغًا فِيهَا، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} مُتَأَخِّرًا فِي التَّنْزِيلِ، وَإِنْ كَانَ مُقَدَّمًا فِي التِّلَاوَةِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَاتِ وَتَرْتِيبُ مَعَانِيهَا: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} هِيَ شَهْرُ رَمَضَانَ {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فَيَكُونُ هَذَا حُكْمًا ثَابِتًا مُسْتَقِرًّا مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ، ثُمَّ نَزَلَ قَوْلُهُ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَنُسِخَ بِهِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفِدْيَةِ وَالصَّوْمِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} مُؤَخَّرًا فِي اللَّفْظِ، وَكَانَ ذَلِكَ يَعْتَوِرُهُ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ.
وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا فِي التِّلَاوَةِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ فِي التَّنْزِيلِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ بِالْوَاوِ، وَهِيَ لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ، فَكَأَنَّ الْكُلَّ مَذْكُورٌ مَعًا فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} إلَى قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} يَحْتَمِلُ مَا احْتَمَلَتْهُ قِصَةُ الْبَقَرَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَفِيهِ عِدَّةُ أَحْكَامٍ؛ مِنْهَا: إيجَابُ الصِّيَامِ عَلَى مَنْ شَهِدَ الشَّهْرَ دُونَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ، فَلَوْ كَانَ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} لَاقْتَضَى ذَلِكَ لُزُومَ الصَّوْمِ سَائِرَ النَّاسِ الْمُكَلَّفِينَ، فَلَمَّا عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} بَيَّنَ أَنَّ لُزُومَ صَوْمِ الشَّهْرِ مَقْصُورٌ عَلَى بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، وَهُوَ مَنْ شَهِدَ الشَّهْرَ دُونَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْهُ.
وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ} يَعْتَوِرُهُ مَعَانٍ، مِنْهَا: مَنْ كَانَ شَاهِدًا يَعْنِي مُقِيمًا غَيْرَ مُسَافِرٍ، كَمَا يُقَالُ لِلشَّاهِدِ، وَالْغَائِبِ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ، فَكَانَ لُزُومُ الصَّوْمِ مَخْصُوصًا بِهِ الْمُقِيمُونَ دُونَ الْمُسَافِرِينَ.
ثُمَّ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا لَكَانَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ الِاقْتِصَارَ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِمْ دُونَ الْمُسَافِرِينَ؛ إذْ لَمْ يُذْكَرُوا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ مِنْ صَوْمٍ وَلَا قَضَاءٍ، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} بَيَّنَ حُكْمَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ إذَا أَفْطَرُوا، هَذَا إذَا كَانَ التَّأْوِيلُ فِي قَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ} الْإِقَامَةَ فِي الْحَضَرِ.
وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى شَاهِدِ الشَّهْرِ أَيْ عَلِمَهُ، وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ} فَمَنْ شَهِدَهُ بِالتَّكْلِيفِ؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ، وَمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فِي حُكْمِ مَنْ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي انْتِفَاءِ لُزُومِ الْفَرْضِ عَنْهُ، فَأَطْلَقَ اسْمَ شُهُودِ الشَّهْرِ عَلَيْهِمْ، وَأَرَادَ بِهِ التَّكْلِيفَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} لَمَّا كَانُوا فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِمَا سَمِعُوا بِمَنْزِلَةِ الْأَصَمِّ الَّذِي لَا يَسْمَعُ سَمَّاهُمْ بُكْمًا عُمْيًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} يَعْنِي عَقْلًا؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِعَقْلِهِ فَكَأَنَّهُ لَا قَلْبَ لَهُ؛ إذْ كَانَ الْعَقْلُ بِالْقَلْبِ؛ فَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَعَلَ شُهُودَ الشَّهْرِ عِبَارَةً عَنْ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ؛ إذْ كَانَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِيهِ فِي بَابِ سُقُوطِ حُكْمِهِ عَنْهُ.
وَمِنْ الْأَحْكَامِ الْمُسْتَفَادَةِ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} غَيْرَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ تَعْيِينُ فَرْضِ رَمَضَانَ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِشُهُودِ الشَّهْرِ كَوْنِهِ فِيهِ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ، وَأَنَّ الْمَجْنُونَ وَمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ صَوْمُ الشَّهْرِ.
وَاَللَّهُ أَعْلَم بِالصَّوَابِ.

.بَاب ذِكْرِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِيمَنْ جُنَّ رَمَضَانَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ:

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالثَّوْرِيُّ: إذَا كَانَ مَجْنُونًا فِي رَمَضَانَ كُلِّهِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَفَاقَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ قَضَاهُ كُلَّهُ.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِيمَنْ بَلَغَ، وَهُوَ مَجْنُونٌ مُطْبَقٌ فَمَكَثَ سِنِينَ ثُمَّ أَفَاقَ: فَإِنَّهُ يَقْضِي صِيَامَ تِلْكَ السِّنِينَ وَلَا يَقْضِي الصَّلَاةَ.
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْمَعْتُوهِ يُفِيقُ وَقَدْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ وَقَالَ فِي الْمَجْنُونِ الَّذِي يُجَنُّ ثُمَّ يُفِيقُ أَوْ الَّذِي يُصِيبُهُ الْمِرَّةَ ثُمَّ يُفِيقُ: أَرَى عَلَى هَذَا أَنْ يَقْضِيَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْبُوَيْطِيِّ: وَمَنْ جُنَّ فِي رَمَضَانَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ صَحَّ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ كَذَلِكَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَجْنُونِ الَّذِي لَمْ يُفِقْ فِي شَيْءٍ مِنْ الشَّهْرِ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ شَاهَدَ الشَّهْرَ، وَشُهُودُهُ الشَّهْرَ كَوْنُهُ مُكَلَّفًا فِيهِ، وَلَيْسَ الْمَجْنُونُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّغِيرِ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ».
فَإِنْ قِيلَ: إذَا احْتَمَلَ قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} شُهُودُهُ بِالْإِقَامَةِ وَتَرْكِ السَّفَرِ دُونَ مَا ذَكَرْتَهُ مِنْ شُهُودِهِ بِالتَّكْلِيفِ، فَمَا الَّذِي أَوْجَبَ حَمْلَهُ عَلَى مَا ادَّعَيْتَ دُونَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَالِ الْإِقَامَةِ؟ قِيلَ لَهُ: لَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلْمَعْنَيَيْنِ وَهُمَا غَيْرُ مُتَنَافِيَيْنِ بَلْ جَائِزٌ إرَادَتُهُمَا مَعًا، وَكَوْنُهُمَا شَرْطًا فِي لُزُومِ الصَّوْمِ، وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا؛ وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُكَلَّفًا بِالصَّوْمِ غَيْرَ مُرَخَّصٍ لَهُ فِي تَرْكِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ.
وَلَا خِلَافَ أَنَّ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْخِطَابِ بِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ الْمَجْنُونُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فِي الشَّهْرِ لَمْ يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الْخِطَابُ بِالصَّوْمِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ؛ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنْ الصَّغِيرِ حَتَّى يَحْتَلِمَ» وَرَفْعُ الْقَلَمِ هُوَ إسْقَاطُ التَّكْلِيفِ عَنْهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْجُنُونَ مَعْنًى يَسْتَحِقُّ بِهِ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ إذَا دَامَ بِهِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الصَّغِيرِ إذَا دَامَ بِهِ الشَّهْرُ كُلُّهُ فِي سُقُوطِ فَرْضِ الصَّوْمِ.
وَيُفَارَقُ الْإِغْمَاءُ هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْوِلَايَةَ بِالْإِغْمَاءِ إنْ طَالَ، وَفَارَقَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ الْمَجْنُونَ وَالصَّغِيرَ وَأَشْبَهَ الْإِغْمَاءُ النَّوْمَ فِي بَابِ نَفْيِ وِلَايَةِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا يَصِحُّ خِطَابُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ كَمَا لَا يَصِحُّ خِطَابُ الْمَجْنُونِ وَالتَّكْلِيفُ زَائِلٌ عَنْهُمَا جَمِيعًا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ بِالْإِغْمَاءِ.
قِيلَ لَهُ: الْإِغْمَاءُ وَإِنْ مَنَعَ الْخِطَابَ بِالصَّوْمِ فِي حَالِ وُجُودِهِ فَإِنَّ لَهُ أَصْلًا آخَرَ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْمَرِيضِ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ جَائِزٌ سَائِغٌ.
فَوَجَبَ اعْتِبَارُ عُمُومِهِ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِهِ حَالَ الْإِغْمَاءِ؛ وَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْمَرِيضِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِيمَنْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ.
وَأَمَّا مَنْ أَفَاقَ مِنْ جُنُونِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الشَّهْرِ، فَإِنَّمَا أَلْزَمُوهُ الْقَضَاءَ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَهَذَا قَدْ شَهِدَ الشَّهْرَ؛ إذْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فِي جُزْءٍ مِنْهُ؛ إذْ لَا يَخْلُو قَوْلُهُ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ} أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ شُهُودَ جَمِيعِ الشَّهْرِ أَوْ شُهُودَ جُزْءٍ مِنْهُ؛ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ لُزُومِ الصَّوْمِ شُهُودَ الشَّهْرِ جَمِيعَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَنَاقُضُ اللَّفْظِ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ شَاهِدًا لِجَمِيعِ الشَّهْرِ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّهِ كُلِّهِ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُضِيُّهُ شَرْطًا لِلُزُومِ صَوْمِهِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ الْمَاضِيَ مِنْ الْوَقْتِ يَسْتَحِيلُ فِعْلُ الصَّوْمِ فِيهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ شُهُودَ الشَّهْرِ جَمِيعَهُ.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ مَنْ طَرَأَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ أَنَّ عَلَيْهِ الصَّوْمَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُ لِشُهُودِهِ جُزْءًا مِنْ الشَّهْرِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ شَرْطَ تَكْلِيفِ صَوْمِ الشَّهْرِ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَوَاجِبٌ إذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ إدْرَاكُ جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ إلَّا صَوْمُ الْجُزْءِ الَّذِي أَدْرَكَهُ دُونَ غَيْرِهِ؛ إذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ شُهُودُ بَعْضِ الشَّهْرِ شَرْطًا لِلُزُومِ الصَّوْمِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: فَمَنْ شَهِدَ بَعْضَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْبَعْضَ.
قِيلَ لَهُ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مَا ظَنَنْت، مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ لَوْلَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ شَرْطَ لُزُومِ الصَّوْمِ شُهُودُ بَعْضِ الشَّهْرِ لَكَانَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ اسْتِغْرَاقُ الشَّهْرِ كُلِّهِ فِي شَرْطِ اللُّزُومِ.
فَلَمَّا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْبَعْضَ دُونَ الْجَمِيعِ فِي شَرْطِ اللُّزُومِ حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ، وَبَقِيَ حُكْمُ اللَّفْظِ فِي إيجَابِ الْجَمِيعِ؛ إذْ كَانَ الشَّهْرُ اسْمًا لِجَمِيعِهِ، فَكَانَ تَقْدِيرُهُ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ شَيْئًا مِنْ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ جَمِيعَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا أَفَاقَ، وَقَدْ بَقِيَتْ أَيَّامٌ مِنْ الشَّهْرِ، يَلْزَمُكَ أَنْ لَا تُوجِبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى لِاسْتِحَالَةِ تَكْلِيفِهِ صَوْمَ الْمَاضِي مِنْ الْأَيَّامِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ مُنْصَرِفًا إلَى مَا بَقِيَ مِنْ الشَّهْرِ قِيلَ لَهُ: إنَّمَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْأَيَّامِ الْمَاضِيَةِ لَا صَوْمُهَا بِعَيْنِهَا، وَجَائِزٌ لُزُومُ الْقَضَاءِ مَعَ امْتِنَاعِ خِطَابِهِ بِالصَّوْمِ فِيمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْقَضَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاسِيَ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ يَسْتَحِيلُ خِطَابُهُ بِفِعْلِ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَلَمْ تَكُنْ اسْتِحَالَةُ تَكْلِيفِهِمْ فِيهَا مَانِعَةً مِنْ لُزُومِ الْقَضَاءِ؟ وَكَذَلِكَ نَاسِي الصَّلَاةِ وَالنَّائِمِ عَنْهَا، فَإِنَّ الْخِطَابَ بِفِعْلِ الصَّوْمِ يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِعْلُهُ فِي وَقْتِ التَّكْلِيفِ، وَالْآخَرُ: قَضَاؤُهُ فِي وَقْتٍ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الْخِطَابُ بِفِعْلِهِ فِي حَالِ الْإِغْمَاءِ وَالنِّسْيَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.